فصل: تفسير الآيات (156- 158):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والحق قال: {بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلًا}. كان المقتضي في الأسلوب العادي أن يقول: بكفرهم وبقتلهم الأنبياء طبع الله على قلوبهم. ولكن سبحانه لم يقل ذلك لحكمة بالغة. وحتى نعرف تلك الحكمة فلنبحث عن المقابل لطبع الله على قلوبهم، المقابل هو فتح الله على قلوبهم بالهدى.
وجاء قول الحق معبرًا تمام التعبير عن موقفهم: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ الله وَقَتْلِهِمُ الأنبياء بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا}.
وهكذا نرى عظمة القرآن الذي يأتي بالمعنى الدقيق ويجب أن نفكر فيه ونتدبر كل كلمة منه.
الحق- إذن- يقدم الأسباب لما صنعه بهم بالحيثيات، من نقضهم للميثاق، وكفرهم بآيات الله، وبقتلهم للأنبياء بغير حق؛ لذلك لم يفتح الله عليهم بالهدى، بل طبع الله على قلوبهم بالكفر. فوجود بل دليل على أن هناك أمرًا قد نفي وأمرًا قد تأكد. والأمر الذي نفاه الله عنهم أنه لم يفتح عليهم بالهدى والإيمان، والأمر الذي تأكد أنه سبحانه قد طبع على قلوبهم بالكفر.
وفي آية أخرى قال عنهم: {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَّا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 88]
فقلوبهم ليست غلفًا، ولكن هي لعنة الله لهم وإبعاده لهم وطردهم واستغناؤه عنهم؛ لذلك تركهم لأنفسهم فغلبت عليهم الشهوات. ولماذا ذيل الحق الآية بقوله: {فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلًا}؟ لأن المقصود به عدم إغلاق باب الإيمان على إطلاقه أمام هؤلاء الناس، وهو- كما عرفنا من قبل- صيانة الاحتمال. فقد يعلن واحد من هؤلاء إيمانه الذي خبأه في نفسه، فكيف يجد الفرصة لذلك إن كان الله قد قال عنهم جميعًا {وَطَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ}؟
إن الذي يَرْغَبُ في إعلان الإيمان منهم لا يجد الباب مفتوحًا، ولكن عندما يجد الحق قد قال: {فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلًا} فهو يعلم أن باب الإيمان مفتوح للجميع. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مَّيثَاقَهُمْ}: في مَا هذه وجهان:
أحدهما: أنها زائدةٌ بين الجارِّ ومجروره تأكيدًا.
والثاني: أنها نكرة تامَّة، و{نَقْضِهِمْ} بدلٌ منه، وهذا كما تقدَّم في قوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله} [آل عمران: 159].
ونَقْضِ مصدرٌ مضاف لفاعله، و{مِيثَاقَهُمْ} مفعوله، وفي متعلَّق الباءِ الجارةِ لمَا هذه وجهان:
أحدهما: أنه {حَرَّمْنَا} المتأخِّر في قوله: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا} [النساء: 160] وعلى هذا، فيقال: {فَبِظُلْمٍ} متعلِّق بـ {حَرَّمْنَا} أيضًا، فيلزم أن يتعلق حرفًا جَرٍّ متحدانِ لفظًا ومعنًى بعاملٍ واحدٍ؛ وذلك لا يجوز إلا مع العطف أو البدل، وأجابوا عنه بأن قوله: {فَبِظُلْمٍ} بدل من قوله: {فبمَا} بإعادة العامل، فيقال: لو كان بدلًا لما دخلَتْ عليه فاءُ العطف؛ لأن البدل تابعٌ بنفسه من غير توسُّطِ حرفِ عطفٍ، وأُجيبَ عنه بأنه لمَّا طالَ الكلام بين البدل والمبدلِ منه، أعادَ الفاءَ للطُّولِ، ذكر ذلك أبو البقاء والزَّجَّاج والزمخشريُّ وأبو بَكْرٍ وغيرهم.
ورَدَّه أبو حيان بما معناه أنَّ ذلك لا يجوز لطُول الفصْل بين المبدَلِ والبدل، وبأنَّ المعطوفَ على السببِ سببٌ، فيلزمُ تأخُّرُ بعضِ أجزاءِ السبب الذي للتحريم في الوقتِ عن وقت التحريم؛ فلا يمكنُ أن يكون سببًا أو جزء سببٍ إلا بتأويلٍ بعيدٍ، وذلك أن قولهم: {إِنَّا قَتَلْنَا المسيح} وقولهم على مريم البهتان إنما كان بعد تحْريم الطيبات، قال: فالأوْلَى أن يكونَ التقدير: {لَعَنَّاهُمْ}، وقد جاء مصرَّحًا به في قوله: {فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم}.
والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوف، فقدَّره ابنُ عطيَّة: لعنَّاهُمْ وأذْلَلْنَاهُمْ وختمنا على قلُوبهم، قال: وحَذْفُ جواب مثْلِ هذا الكلام بليغٌ، وتسميةُ مثل هذا جَوَاب غيرُ معروف لغةً وصناعةً، وقدَّره أبو البقاء: فَبِمَا نَقْضِهِمْ ميثاقَهُمْ طُبعَ على قُلُوبِهِمْ، أوْ لُعِنُوا، وقيل: تقديرُه: فبما نقضهِمْ لا يُؤمِنُونَ، والفاءُ زائدةٌ.
أي: في قوله تعالى: {فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلًا}. انتهى.
وهذا الذي أجازه أبو البقاء تَعَرَّضَ له الزمخشريُّ، وردَّه، فقال: فإن قلْتَ: فهلاَّ زَعَمْتَ أنَّ المحذوفَ الذي تعلَّقَتْ به الباء ما دَلَّ عليه قوله بَلْ طَبَعَ اللَّهُ، فيكون التقديرُ: فبمَا نقضِهِمْ طَبَعَ اللَّهُ على قُلُوبِهِمْ، بل طَبَعَ الله عَلَيْهَا بكُفْرهِمْ قلت: لم يصحَّ لأن قوله: {بل طبع الله عليها بكفرهم} ردٌّ وإنكارٌ لقولهم: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ}، فكانَ متعلِّقًا به، قال أبو حيان: وهو جوابٌ حسنٌ، ويمتنعُ من وجهٍ آخر، وهو أنَّ العطفَ ببَلْ للإضرابِ، والإضرابُ إبطالٌ، أو انتقالٌ، وفي كتاب الله في الإخبار لا يكون إلا للانتقالِ، ويُسْتفادُ من الجملةِ الثانية ما لا يُسْتفاد من الأولى، والذي قَدَّره الزمخشريُّ لا يَسُوغُ فيه الذي قرَّرناه؛ لأنَّ قوله: {فَبِمَا نَقْضِهِم ميثَاقَهُمْ وَكُفْرهِمْ بآياتِ الله وقوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا} هو مدلولُ الجمْلة التي صَحبتها بَلْ، فأفادت الثانِيَة ما أفَادَتِ الأولَى، ولو قُلْت: مرَّ زَيْد بِعَمْرو، بل مَرَّ زَيْدٍ بعمرو، لم يَجُزْ.
وقَدَّرَهُ الزمَخْشَرِي: فَعَلْنَا بِهِم ما فَعَلْنَا، وتقدَّم الكَلاَم على الكُفْرِ بآيَاتِ اللَّهِ، وقَتْلِهِم الأنْبِياءَ بغَيْرِ حَقٍّ في البَقَرة.
وأمَّا قولُهم: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} جمع غِلاَفٍ، والأصل غُلُفٌ بتحريك اللاَّم، وخُفِّفَ كما قِيلَ بالتَّسْكِين؛ ككُتْب وَرُسْل بتَسْكِين التاءِ والسِّين والمَعْنَى على هذا: أنهم قالوا: {قُلُوبُنَا غُلْف} أي: أوْعِيَةٌ للعِلْمِ، فلا حَاجَة بِنَا إلى عِلْمٍ سِوَى ما عِنْدَنَا، فكَذَّبُوا الأنْبِيَاء بهَذَا القَوْلِ.
وقيل: إن غُلْفًا جَمْع أغْلَف وهو المغَطَّى بالغلافِ، أي: بالغِطَاءِ، والمَعْنَى على هذا: أنَّهمُ قالُوا: قُلُوبُنَا في أغْطِيَةٍ، فَهي لا تَفْقَهُ ما تَقُولُون؛ نظيره قولُهُم: {قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت: 5].
قوله: {بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا} هذا إضرابٌ عن الكلام المتقدِّم، أي: ليس الأمرُ كما قالوا من قولهم: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ}، وأظهرَ القرَّاءُ لامَ بَلْ في {طَبَعَ} إلا الكسائي، فأدغم من غيرِ خلاف، وعن حمزة خلاف، والباء في {بِكُفرهِمْ} يُحتمل أن تكون للسببية، وأن تكون للآلة؛ كالباء في طَبَعْتُ بالطِّينِ على الْكِيسِ يعني أنه جعل الكُفْر كالشيء المطْبُوع به، أي: مُغَطِّيًا عليها، فيكونُ كالطابع، وقوله: {إِلاَّ قَلِيلًا} يحتملُ النصبَ على نعت مصدر محذوف، أي: إلا إيمانًا قليلًا وهو إيمانُهُم بمُوسَى والتَّوراة فقط، وقد تقدم أن الإيمَانَ بالبَعْضِ دُونَ البَعْضِ كُفْرٌ، ويُحْتَمل كَوْنُه نَعْتًا لِزَمَانٍ مَحْذُوفٍ، أي: زَمَانًا قَلِيلًا، ولا يجُوزُ أن يكُون مَنْصُوبًا على الاسْتِثْنَاءِ من فَاعِل {يؤمنُونَ} أي: إلاَّ قَلِيلًا مِنْهُم فإنَّهُم يُؤمِنُون؛ لأنَّ الضَّمِير في لاَ يُؤْمِنُونَ عائدٌ على المَطْبُوعِ على قُلُوبهم، ومن طُبعَ على قَلْبِه بالكُفْرِ، فلا يَقَعُ مِنْهُ الإيمانُ.
[والجواب أنَّه مِنْ إسنادِ مَا للبعض للكُلِّ، أي: في قوله: {بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} فتأمّل].
وقال البغوي: {إِلاَّ قَلِيلًا} يعني: ممَّن كَذَّب الرُّسُل لا من طُبِعَ على قَلْبِهِ؛ لأنَّ من طَبَعَ الله على قَلْبِه، لا يُؤمِنُ أبَدًا، وأرَادَ بالقَلِيلِ: عَبْد الله بن سَلاَم وأصْحَابه. اهـ.

.تفسير الآيات (156- 158):

قوله تعالى: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)}

.مناسبة الآيات لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما بين كفرانهم بقتل الأنبياء بين كفرهم بالبهتان الذي هو سبب القتل، والفتنة أكبر من القتل، فقال معظمًا له باعادة العامل: {وبكفرهم} أي المطلق الذي هو سبب اجترائهم على الكفر بنبي معين كموسى عليه الصلاة والسلام، وعلى القذف، ليكون بعض كفرهم معطوفًا على بعض آخر، ولذلك قال: {وقولهم على مريم} أي بعد علمهم بما ظهر على يديها من الكرامات الدالة على براءتها وأنها ملازمة للعبادة بأنواع الطاعات {بهتانًا عظيمًا} ثم علمهم بما لم ينالوا من قتل أعظم من جاء من أنبيائهم بأعظم ما رأوا من الآيات من بعد موسى وهو عيسى عليهما الصلاة والسلام، ثم بادعائهم لقتله وصلبه افتخارًا به مع شكهم فيه فقال: {وقولهم إنا قتلنا المسيح} ثم بينه بقوله: {عيسى ابن مريم} ثم تهكموا به بقولهم: {رسول الله} أي الذي له أنهى العظمة، فجمعوا بين أنواع من القبائح، منها التشيع بما لم يعطوا، ومنها أنه على تقدير صدقهم جامع لأكبر الكبائر مطلقًا، وهو الكفر بقتل النبي لكونه نبيًا، وأكبر الكبائر بعده وهو مطلق القتل، ولم يكفهم ذلك حتى كانوا يصفونه بالرسالة مضافة إلى الاسم الأعظم استهزاء به وبمن أرسله عزَّ اسمه وجلت عظمته وتعالى كبرياؤه وتمت كلماته ونفذت أوامره لكونه لم يمنعه منهم على زعمهم {وما} أي والحالة أنهم ما {قتلوه وما صلبوه} وإن كثر قائلو ذلك منهم، وسلمه لهم النصارى {ولكن} لما كان المقصود وقوع اللبس عليهم الضار لهم، لا لكونه من معين قال: {شبه لهم} أي فكانوا في عزمهم بذلك متشيعين بما لم يعطوا.
ولما أفهم التشبيه الاختلاف، فكان التقدير: فاختلفوا بسبب التشبيه في قتله، فمنهم من قال: قتلناه جازمًا، ومنهم من قال: ليس هو المقتول، ومنهم من قال: الظاهر أنه هو، عطف عليه قوله دالًا على شكهم باختلافهم: {وإن الذين اختلفوا فيه} أي في قتله {لفي شك منه} أي تردد مستوى الطرفين، كلهم وإن جزم بعضهم، ثم أكد هذا المعنى بقوله: {ما لهم به} وأغرق في النفي بقوله: {من علم}.
ولما كانوا يكلفون أنفسهم اعتقاد ذلك بالنظر في شهادته، فربما قويت عندهم شبهة فصارة أمارة أوجبت لهم- لشغفهم بآمالها- ظنًا ثم اضمحلت في الحال لكونها لا حقيقة لها، فعاد الشك وكان أبلغ في التحير؛ قال: {إلا} أي لكن {اتباع الظن} أي يكلفون أنفسهم الارتقاء من درك الشك إلى رتبة الظن، وعبر بأداة الاستثناء دون لكن الموضوعة للانقطاع إشارة إلى أن إدراكهم لما زعموه من قتله مع كونه في الحقيقة شكًا يكلفون أنفسهم جعله ظنًا، ثم يجزمون به، ثم صار عندهم متواترًا قطعيًا، فلا أجهل منهم.
ولما أخبر بشكهم فيه بعد الإخبار بنفيه أعاد ذلك على وجه أبلغ فقال: {وما قتلوه} أي انتفى قتلهم له انتفاء {يقينًا} أي انتفاؤه على سبيل القطع، ويجوز أن يكون حالًا من قتلوه أي ما فعلوا القتل متيقنين أنه عيسى عليه الصلاة والسلام، بل فعلوه شاكين فيه والحق أنهم لم يقتلوا إلا الرجل الذي ألقى شبهه عليه، والوجه الأول أولى لقوله: {بل رفعه الله} بما له من العظمة البالغة والحكمة الباهرة، رفع عيسى عليه الصلاة والسلام {إليه} أي إلى مكان لا يصل إليه حكم آدمي، وعن وهب أنه أوحى إليه ابن ثلاثين، ورفع ابن ثلاث وثلاثين فكانت رسالته ثلاثًا وثلاثين سنة {وكان الله} أي الذي له جميع صفات الكمال في كل حال عند قصدهم له وقبله وبعده {عزيزًا} أي يغلب ولا يغلب {حكيمًا} أي إذا فعل شيئًا أتقنه بحيث لا يطمع أحد في نقض شيء منه، وختمُ الآية بما بين الصفتين يدل على أن المراد ما قررته من استهزائهم، وأنه قصد الرد عليهم، أي إنه قد فعل ما يمنع من استهزائكم، فرفعه إليه بعزته وحفظه بحكمته، وسوف ينزله ببالغ قدرته، فيردكم عن أهوائكم، ويسفك دماءكم، ويبيد خضراءكم، وله في رفعه وإدخاله الشهبة عليكم حكمة تدق عن أفكار أمثالكم. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

اعلم أنهم لما نسبوا مريم إلى الزنا لإنكارهم قدرة الله تعالى على خلق الولد من دون الأب ومنكر قدرة الله على ذلك كافر لأنه يلزمه أن يقول: كل ولد ولد فهو مسبوق بوالد لا إلى أول، وذلك يوجب القول بقدم العالم والدهر، والقدح في وجود الصانع المختار، فالقوم لا شك أنهم أولًا: أنكروا قدرة الله تعالى على خلق الولد من دون الأب، وثانيًا: نسبوا مريم إلى الزنا، فالمراد بقوله: {وَبِكُفْرِهِمْ} هو إنكارهم قدرة الله تعالى، وبقوله: {وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بهتانا عَظِيمًا} نسبتهم إياها إلى الزنا، ولما حصل التغير لا جرم حسن العطف، وإنما صار هذا الطعن بهتانًا عظيمًا لأنه ظهر عند ولادة عيسى عليه السلام من الكرامات والمعجزات ما دلّ على براءتها من كل عيب، نحو قوله: {وَهُزّى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة تساقط عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} [مريم: 25] ونحو كلام عيسى عليه السلام حال كونه طفلًا منفصلًا عن أمه، فإن كل ذلك دلائل قاطعة على براءة مريم عليها السلام من كل ريبة، فلا جرم وصف الله تعالى طعن اليهود فيها بأنه بهتان عظيم، وكذلك وصف طعن المنافقين في عائشة بأنه بهتان عظيم حيث قال: {سبحانك هذا بهتان عَظِيمٌ} [النور: 16] وذلك يدل على أن الروافض الذين يطعنون في عائشة بمنزلة اليهود الذين يطعنون في مريم عليها السلام. اهـ.
قال الفخر:
قوله تعالى: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولَ الله}.
هذا يدل على كفر عظيم منهم لأنهم قالوا فعلنا ذلك، وهذا يدل على أنهم كانوا راغبين في قتله مجتهدين في ذلك، فلا شك أن هذا القدر كفر عظيم.
فإن قيل: اليهود كانوا كافرين بعيسى أعداء له عامدين لقتله يسمونه الساحر ابن الساحرة والفاعل ابن الفاعلة، فكيف قالوا: إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله؟
والجواب عنه من وجهين:
الأول: أنهم قالوه على وجه الاستهزاء كقول فرعون {إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء: 27] وكقول كفار قريش لمحمد صلى الله عليه وسلم: {وَقَالُواْ يا أيها الذي نُزّلَ عَلَيْهِ الذكر إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر: 6]، والثاني: أنه يجوز أن يضع الله الذكر الحسن مكان ذكرهم القبيح في الحكاية عنهم رفعًا لعيسى عليه السلام عما كانوا يذكرونه به. اهـ.